صحة

الميكروبيوم: المدينة التي تعيش داخل معدتك

المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء.. كيف تؤثر المعدة والجهاز الهضمي في صحتنا وحياتنا كلها؟

future الميكروبيوم

يزخر تراثنا العربي بحِكم ونصائح الاعتدال في الطعام والتحذير من التخمة وربط الطعام المتوازن بالصحة الجيدة، لعل أشهر تلك الحكم ما قاله حارث بن كلدة: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء»، وهو ما يعني أن العرب أدركوا بالمشاهدة تأثير الطعام وصحة المعدة على أجسادنا وصحتنا ككل.

لعلك لاحظت أنت أيضاً كيف يتأثر يومك وصحتك كلها في الأوقات التي تعاني فيها من اضطراب القولون أو ألم المعدة، وهو ما يؤيده العلم، فكل الأبحاث تقريباً تتفق على أن تمتعك بمعدة سليمة يعني جسداً سليماً بالتبعية، ولكن السؤال هو كيف يحدث هذا؟ وكيف تؤثر المعدة والجهاز الهضمي في صحتنا وحياتنا كلها؟

الجواب ببساطة: «الميكروبيوم».

وفيك انطوى العالم الأكبر

الميكروبيوم هي كلمة شاملة، تستعمل عادة لوصف كل الكائنات الحية الدقيقة كالبكتيريا والفيروسات التي تعيش في جزء معين من أجسادنا مثل الجلد أو المعدة، وهي كائنات ديناميكية وليست ثابتة، أي إنها تؤثر في البيئة المحيطة وتتأثر بها، لكننا اليوم سنتحدث بشكل أساسي عن ميكروبيوم الأمعاء.

أمعاؤك ليست مجرد أنبوب طويل، لكنها عالم كامل يزخر بالحياة، يمكن تخيل الأمر كمدينة عملاقة، يسكنها مليارات الكائنات الدقيقة، سواء كانت بكتيريا، أو فطريات أو حتى طفيليات، وكلها - كأي جيران - تؤثر بعضها على بعض، وبالتبعية تؤثر عليك أيضاً وعلى صحتك، وتتأثر بك. فيمكننا وصف علاقتنا بالكائنات التي تعيش داخلنا بأنها علاقة تكافلية، فنحن نوفر لها المأوى وأيضاً الغذاء، وهي توفر لنا الحماية.

كيف يساعدنا سكان الأمعاء؟

تساهم الأمعاء بنصيب الأسد من نشاط جهازنا المناعي، ووجود البكتيريا فيها يعد بمثابة تدريب على التعامل مع أنواع البكتيريا الضارة، حيث إن 70 في المائة من مناعة الجسم مصدرها القناة الهضمية! وبالتبعية كلما تغيرت نوعية الكائنات الدقيقة في الأمعاء تغيرت أعراض الكثير من الأمراض المناعية وسواها من الأمراض، أي إن الجسد السليم يرتبط بغلبة عدد البكتيريا النافعة على الضارة.

هذه الكائنات الدقيقة تساعدنا كذلك في الهضم، فأجسامنا عاجزة عن الهضم بمفردها، هضم الألياف مثلاً، أيضاً يلعب الميكروبيوم دوراً مهماً في تخليق بعض الفيتامينات مثل فيتامين ب.

والعجيب أن تلك المخلوقات التي لا تُرى تؤثر تأثيراً هائلاً على نفسيتنا، فبعض الدراسات ربطت بين نقص البكتيريا النافعة في الجسم وبين أمراض القلق والاكتئاب؛ لأن الميكروبيوم يساهم في تخليق النواقل العصبية، وربطت دراسات أخرى بين أمراض الدماغ مثل آلزهايمر وبين اضطراب البيئة الداخلية، والمدهش أنه من ناحية تطورية، لم تكن دماغك لتوجد أصلاً دون إشارات القناة الهضمية! وترتبط صحة كل منهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً.

يمكن ببساطة القول إن صحتك الجسدية والنفسية، وقابليتك للسمنة من عدمها، واحتمالية تعرضك للكثير من الأمراض، لا تحددها فقط الجينات، بل يلعب الميكروبيوم ومدى توازن بيئتك الداخلية الدور الأكبر في كل هذا، وأنه - على عكس الشائع - 99 بالمائة من البكتيريا هي صديقة وليست عدواً، لكن يتوقف الأمر على كيفية تعاملنا معها.

اختلال الميكروبيوم

تبدأ رحلتنا مع الميكروبيوم من أول لحظة لنا في هذا العالم، فعند الولادة – الطبيعية - يتعرض الجنين للبكتيريا الموجودة في جسد الأم في أثناء طريقه للعالم الخارجي.

مبارك، لقد حصل الوافد الجديد على الجرعة الأولى من البكتيريا، ومنذ هذه اللحظة يتحمل الشخص مسئولية تشكيل وتنوع البيئة الداخلية لديه وجودتها عن طريق التغذية والرياضة ومستوى نشاطه والأماكن التي يعيش فيها، ومستوى تلوثها والضغوط التي يتعرض لها، ونمط حياته وعلاقاته الأسرية، ووجهات السفر وطبيعتها البيئية، ونوعية العمل الذي يمارسه، والعلاقة مع الحيوانات الأليفة.

كل هذه العوامل تؤثر على عدد وأنواع البكتيريا والكائنات الدقيقة بداخلك، وتشكُّل النظام البيئي الداخلي الذي يؤثر في كل شيء آخر.

لكن لسوء الحظ يمكن بسهولة أن نفقد كل الفوائد التي تقدمها لنا الكائنات الدقيقة التي تسكننا، وهي خسارة كبيرة بالفعل، فكيف تحدث؟

تحدث بمرور السنين عن طريق بعض الأفعال التي تحدث خللاً في توازن بيئتنا الداخلية، أي إننا نقتل ما بداخلنا بشكل حرفي وليس مجازياً.

مثلاً الولادة القيصرية بلا داعٍ تحرم الجنين من جرعته الأولى من الكائنات الدقيقة، وكذلك الإفراط في استخدام اللبن الصناعي يؤثر على توازن أمعاء الطفل، وأيضاً كثرة استخدام المضادات الحيوية تقضي على كل أنواع الكائنات بلا تمييز، وهو ما يقع أيضاً عند الإفراط في الحماية واستخدام المطهرات والمعقمات أكثر من اللازم، لهذا تجد الطفل المبالَغ في حمايته أكثر تعرضاً للأمراض من الطفل الذي يقضي يومه في الشارع؛ لأنه مُنع من تكوين المناعة اللازمة.

هناك عدة أشياء أخرى نستخدمها في يومنا العادي تضر الميكروبيوم ونحن لا نعلم، مثل دخان السجائر، والمبيدات الحشرية، والإفراط في استعمال مضادات الحموضة دون وصفة طبية.

أما أهم سبب من أسباب اختلال الميكروبيوم في عصرنا هذا هو الطعام المعالج، ويشمل كل أنواع الطعام الذي تعرض لعمليات معالجة وتصنيع كثيرة، حتى لو رُوِّج له على أنه صحي، فالقاعدة ثابتة: إضافات متعددة وعمليات معالجة معقدة تساوي ميكروبيوم متضرر، وهذا بدوره يزيد من ميلك للطعام الصناعي أكثر، فتزداد حالتك سوءاً إلى نهاية الدائرة المغلقة.

نتائج اختلال الميكروبيوم

السمنة واضطرابات الشهية، ومقاومة الأنسولين ومرض السكري، وحساسية الطعام بأنواعها المختلفة، وارتفاع ضغط الدم وأمراض الشرايين، واضطراب القولون، بل سرطان القولون أيضاً، كل هذه الأمراض وغيرها، واحد من أسبابها المباشرة هو خلل البيئة الداخلية ونقص البكتيريا النافعة في الأمعاء، وبالتالي زيادة البكتيريا الضارة.

والأسوأ هو الارتباط الوثيق بين هذا الخلل وبين مشاعر الخوف والقلق والاكتئاب والأمراض العقلية، أما الحقيقة المخيفة قليلاً، فهي أنك لو لم تطعم البكتيريا النافعة بما يكفيها فستفقد تنوع بيئتك الداخلية، فالخطوة التالية هي أن تبدأ البكتيريا بالتهامك من الداخل!

فحين تنقص الألياف أو تنعدم من طعامك، والتي هي الغذاء الأساسي للبكتيريا، تبدأ البكتيريا بالتهام الغشاء المخاطي للمعدة، وبمرور الوقت يحدث به ما يشبه الفتحات، فتتسرب البكتيريا عبر تلك الفتحات لأجزاء أخرى من الجسم غير الأمعاء، بالتالي يبدأ الجهاز المناعي في قتالها باعتبارها جسماً دخيلاً، فتكون النتيجة هي زيادة الالتهابات في الجسم، والالتهابات هي أصل معظم الأمراض!

كيف تعرف أن هناك شيئاً ما خطأً؟

للأسف، لا يوجد اختبار أو فحص يمكنه الجزم بحالة الميكروبيوم لديك وتنوعه، هناك بالطبع بعض الاختبارات مثل فحص وتحليل البراز، لكنها لا تعتبر مصدر تأكيد؛ لأن أنواع البكتيريا ووظيفة كل نوع منها بالتحديد لا تزال في مرحلة الأبحاث، لهذا لا يُعتمَد التحليل كوسيلة تشخيص حاسمة.

رغم ذلك يمكنك معرفة حالة جهازك الهضمي عن طريق بعض الأعراض: مثل الانتفاخ المستمر، وعسر الهضم، والشكوى الدائمة من الغازات، وألم البطن غير المفسر، ومشاكل الإخراج مثل الإسهال أو الإمساك الدائم، والهبوط، وضعف المناعة، والضعف العام والخمول، والعصبية الدائمة، فبعد استبعاد الأسباب الأخرى الواضحة لهذه الأعراض، يمكنك وقتها الالتفات لطريقة تعاملك مع الميكروبيوم.

طريقة التعامل الأمثل

لأن الميكروبيوم هو بيئة متكاملة، تعيش فيها آلاف الكائنات في تناغم، فلا يوجد علاج واحد أو وصفة سحرية قادرة على إصلاح ما فعله الدهر وما فعلنا به، لكن ما يمكننا فعله هو بضع خطوات يكمل بعضها بعضاً، والتي قد تستغرق بعض الوقت والمجهود لتطبيقها، لكن النتيجة تستحق بلا شك.

  1. الخطوة الأولى: التغذية

هل تريد بيئة داخلية مليئة بالبكتيريا النافعة؟ ما عليك إلا أن توفر لهم الغذاء المناسب، الألياف، وتقدر الكمية المناسبة بحوالي 50 جراماً من الخضراوات يومياً، ومن 20 إلى 30 نوعاً من النباتات أسبوعياً، وتشمل النباتات الفواكه بأنواعها، والخضراوات، والبقوليات.

ابتعد قدر ما يمكنك عما يمكنه قتل بيئتك الداخلية، مثل المصنعات بأنواعها والطعام المعالج والسكر، ويمكنك الاعتماد أكثر على الحبوب الكاملة مثل الشوفان والبرغل، والمكسرات، والبقوليات مثل الحمص والعدس، وكل ما هو طبيعي، كما في القاعدة الشهيرة: كل ما أكله أجدادك!

ويشمل هذا أيضاً الأطعمة المخمرة لما تحتويه من بكتيريا طبيعية مثل الزبادي واللبن الرايب والجبن القريش والمخللات.

والنصيحة الأهم لاتباع نمط تغذية صحي عموماً هي أن تسمع لجسمك وتفهمه، فلا تأكل إلا على جوع، وليس لأنك في حالة حزن أو انفعال أو ملل، وتوقف عن الأكل عند بداية الشبع لا التخمة، وبالوقت والتدريب تصبح قادراً على تمييز إشارات الجوع والشبع والتعامل معها.

  1. الخطوة الثانية: نمط الحياة

ممارسة الرياضة بانتظام، والتعرض للشمس في الصباح الباكر، وتمارين التنفس، ومحاولة السيطرة على القلق والضغوط، والنوم جيداً، كلها عوامل تُحسِّن من جودة الحياة عموماً، ومن جودة بيئتك الداخلية بالتبعية.

ولا يُشترط أن تبدأ التغيير بعنف، فمثلاً لا يلزم لممارسة الرياضة الاشتراك في نادٍ رياضي أو الالتزام بتمارين معينة وجدول تدريب معقد، بل يمكنك الاكتفاء بالمشي اليومي البسيط لنصف ساعة مثلاً، والتنفس بعمق أثناء المشي، والحفاظ على الخطوة السريعة، وزيادة مدة المشي تدريجياً كل يوم.

أما فيما يتعلق بالضغوط، فالرياضة نفسها وسيلة مضمونة لتقليل الضغط على الجسم، وكذلك اللجوء لما يساعدك على الاسترخاء عادة: التأمل، أو الصلاة، أو تدوين مشاعرك، أو طلب المساعدة من متخصص.

وبالنسبة للنوم، فبعض الدراسات أظهرت وجود ارتباط بين جودة النوم وتنوع بكتيريا الأمعاء، لهذا احرص على أن تكون ساعات نومك في الليل كافية، وابتعد عن الشاشات قبل النوم بنصف ساعة على الأقل لزيادة عمق النوم، ويمكنك تجربة المشروبات المساعدة مثل الكاموميل مثلاً، وتجنب المنبهات في النصف الثاني من اليوم.

وبشكل عام فالطريق للتغيير هو أن تزاحم العادات القديمة بعادات صحية بالتدريج، ولا تستعجل النتائج.

  1. الخطوة الثالثة: لا تفرط في الحذر!

لا تتعامل مع البكتيريا بذعر، فقليل منها لا يضر، بل هو غالباً مفيد، فلا تفرط في استخدام المطهرات والمنظفات سواء للمنزل أو لجسمك، بل استعملها باعتدال أو استبدل بها الأعشاب والمواد الطبيعية، أو حتى يمكنك أحياناً الاكتفاء بتنظيف المنزل بالماء والخل فقط والاستغناء عن المنظفات الصناعية، واستخدام الصابون  الطبيعي لتنظيف الجسم والشعر.

وكذلك لا تمنع أطفالك من اللعب في الحدائق العامة أو مع الحيوانات الأليفة، بل شاركهم اللعب أيضاً؛ لأن التعرض للطبيعة يساهم في تنوع بيئتك الداخلية، وتدريب الجهاز المناعي على خوض الحروب الحقيقية حين يحين وقتها، فلا داعي لتفزع من الطبيعة، دع البكتيريا تأخذ مجراها.

أطيب التمنيات بميكروبيوم سعيد وبكتيريا نافعة راضية!

# صحة

«نوبل» في الطب 2024: لماذا لا يملك البشر زعانف السمكة؟
بحثاً عن الكمال: هل يجب تقنين المنشطات في الرياضة؟
السرطانات المتأخرة: هل لا يزال الشفاء ممكناً؟

صحة